الأربعاء، ١٧ فبراير ٢٠١٠

رسائل البحر ... بين عواصف القدر و أحوال البشر


رسائل البحر
بين عواصف القدر و أحوال البشر



المخرج الفيلسوف داوود عبد السيد صار أكبر من كل الألقاب و التقديرات ... تسع سنوات كاملة انتظر فيلمه بفارغ الصبر لأن الصبر نفذ و فقدت الأمل فى أن يعود داوود ... انتظرت لأن هذا اول فيلم سأراه لداوود على شاشة السينما و قد رأيت كل أفلامه على الشاشة الصغيرة فيما عدا فيلمى " الصعاليك " 1985 و " البحث عن سيد مرزوق " 1991 بحثت عنهم كثيرا ً و لم أجدهم و كان آخر ما شاهدته له " أرض الأحلام " لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة .
داوود عبد السيد الذى أرى أنه صنع أهم فيلم فى تاريخ السينما العربية و هو " أرض الخوف "
داوود عبد السيد صنع فى 25 سنة 8 أفلام فقط قام بكتاتبة نصوصهم السينمائية كلهم فيما عدا " أرض الأحلام " 1993 كتبه المختلف دائما عن و مع الجميع هانى فوزى .





داوود عبد السيد هو من يضع فى السينما المصرية الدعامة لكى نرى الأفلام الفلسفية ذات اللمحة العميقة و الأفلام التى قد تبدو قريبة من سينما ابو سيف و لكنها فى الحقيقة أفلام تدعو إلى التأمل ، تأمل الواقع و البشر كخطوة أولى لكى يتأمل كل منا نفسه و يصلح منها و يساعدها لتندمل جراحها فينصلح حال المجتمع كله .



كنت أعلم و انا فى سبيلى لمشاهدة الفيلم انى سأشاهد فيلم مختلف و لكن لأنه داوود عبد السيد حيث لا يمكن ان تتنبأ بخطواته كانت المفآجأة أكبر من أحتملها و الإختلاف صادم .
بداية الفيلم ( السكندرية ) مذهلة ، انا سكندرى المولد و النشأة و مشهود لى بين أقرانى بأنى ( مافيش فيكى يا اسكندرية خرم إلا و عارفه و لا منطقة و لا مبنى و لا أثر و لا مطعم و لا شارع إلا وعارفه ) لففنى داوود اسكندرية بكاميرا مبهرة و كادرات عجيبة و الراوى يقول " مدينة فيها ريحة زمان " البحر العاصف اللى بيلعب بالسفينة زى القدر ما بيلعب بينا و كل واحد فاكر انه بيعمل اللى فى دماغه و لكن فى الحقيقة بيؤدى دوره بمنتهى الإتقان
الفيلم بتخرج منه و انت مش فاهم و مش عارف و فى نفس الوقت دماغه شغالة تفكير ...
الفيلم عن الحب و الوجع و الفراق عن الآخر الذى لم نعد نقبله و إذا أردنا قبوله نريد ان نغيره بما يتوافق معنا مثلما أراد يحيى فى الفيلم أن يتزوج من العاهرة و استشار فرنشيسكا فأخبرته أنه إذا أرادها فعليه أن يتقبلها كما هى و إلا فليدعها كما هى قائلة له الجملة البديعة " ليه تشترى الترام لما ممكن تشترى تذكرة ؟ " الفيلم عن رأس المال المتوحش اللى بقى بيدوس على كل حاجة فى مصر و مش مهم الناس و لا حياتهم و لا ذكرياتهم ، مش مهم الجمال و لا روح الحياة المهم المال و المال فقط .
قد لا يكون للفيلم قصة واضحة لأنه فيلم " حالة " بيمر على جزء من حياة بعض البشر اما الحوار فكعادة داوود من ابدع ما يكون و لكل شخصية نص حوارى غاية فى الصدق .
نورا تتحدث عن يحيى " يحيى حاجة مختلفة برة مسار حياتى العادية غير كل اللى أعرفهم ... يحيى مغامرة شربة مية وسط العطش ... تجربة فى حياة مابقاش فيها تجارب "
كارلا تتحدث عن يحيى " ما فيش ما فيش كتير يتحكى مش أكتر من قبلات تذكارية كام بوسة من عشر سنين على السلم و بوسة جديدة غير أحضان الترحيب و الوداع ... برئ مش كداب انا ماكنتش مستنية يحيى لكن لما رجع لى بعد عشر سنين حسيت ان عمرى تانى رجع لى كأنى لسة بابتدى من عشر سنين " ثم تتحدث عن ريهام " لغاية لما قابلتِك الغواية دايما ً كذابة غامضة مش مضمونة ... الإختيار هنا هو طريقة حياة و مكان حياة ... لازم أعيش مغامرة الغواية "
قابيل يتحدث عن نفسه " قلت لك انى مابضربش حد ... زمان من قيمة حداشر سنة كده حصل حاجة زى اللى انتا شفتها كده بس الفرق انى مااستحملتش الإهانة فضربت اللى ضربونى كانوا ثلاثة واحد جاله ارتجاج فى المخ و التانى اتكسر له ضلعين و التالت ... مات ... بس مش ده المهم ، المهم نظرة الشاب اللى مات ده كانت عينيه كلها لوم كأنه عايز يقول هيا اللعبة قلبت بجد ليه ؟ احنا ماتفقناش على كده لى انتا ليه عملت كده ؟ من ساعتها و الله حلفت ما امد على اى بنى آدم بعد كده " " لو عملت العملية و فقدت الذاكرة لو شفتك مش حاعرفك مش حاعرف حد يعنى مش حابقى انا قابيل اللى عارفينه انا و انت حايموت حتى لو عاش بعد العملية حايموت نفس الشكل و نفس الجسم بس من غير ذكريات و ياريت على كده و بس ده انا ممكن اموت حد تانى بس انا صعبان عليا أموت و اسيب بيسة لوحدها "
الفيلم كما قال كثير من النقاد يوحى أكثر مما يشير يثير الخيال و التفكير له ألف تأويل و تأويل .



التصوير المدهش للفيلم لمدير التصوير الواعد أحمد المرسى و الذى يعمل للمرة الأولى كمدير للتصوير بعد أن كان ستيدى كام و مصور فى روائع مثل " أحلى الأوقات " و " احكى يا شهرزاد " و " ملك و كتابة " كما ان هندسة الصوت كانت أكثر من بارعة لمهندس الصوت جمعة عبد اللطيف .
اتصدمت فى هذا الفيلم فى إثنين منى ربيع المونتيرة كنت أتوقع مونتاج أجود من هذا بكثير و ليس مثل هذا القطع الحاد و موسيقى الدكتور الكبير راجح داوود لم أكن منتظر بعد 20 سنة أن تأتى موسيقى " رسائل البحر " نسخة معدلة من موسيقى " الكتكات "
أداء الممثلين كان غير مألوف بالمرة رغم أننا راينا منهم ابداعا ً قبل ذلك آسر ياسين يصعد سلم المجد بتؤدة و ثقة بسمة اكتشاف يسرى نصر الله فى " المدينة " تثبت أنها ممثلة عتويلة بطاقات جبارة

محمد لطفى أثبت أن دوره فى " كباريه " ليس صدفة بل و قادر على تقديم الأقوى كما فعل فى " رسائل البحر " صلاح عبد الله الأستاذ أستاذ مشهدين فقط و لكن يدرسوا فى معهد السينما المفآجأة السيناريست و المخرجة التسجيلية نبيهة لطفى فى أول تمثيل لها بأداء منقطع النظير .

اشكرك يا استاذ داوود للحالة المزاجية التى أوصلتنى لها بعد مشاهدتى للفيلم و أشكرك على مثابرتك الدائمة على صنع سينما مغايرة تضاحى بل و تنافس اقوى السينمات العالمية .