رواية شديدة الإمتاع ما أن تقرأ صفحاتها الأولى لا تدعها حتى تنهيها فنهجها الدرامى متماسك لدرجة كبيرة رغم العدد الكبير جدا ً لشخصيات الرواية
( الدم و العصافير)
رواية للدكتور عمرو عبد السميع أعادت تقييمه ككاتب صحفى و صنعت منه أديب غاية فى التمكن ذو أسلوب سلس و بسيط جدا ً مع تمكن لغوى لا بأس به و أسلوب سردى تفصيلى و صفى غاية فى الروعة ينقلك من مكان لآخر أو من بيئة لأخرى مختلفة عنها تماما ً بمنتهى السلاسة و الإتقان فيكون كمن فرط خيوط المجتمع ثم أعاد نسجها مرة أخرى ، كما يخلط الماضى بالحاضر بطريقة مناسبة للغاية لا إلتباس فيها و لا تعقيد
يخدعنا د.عمرو و يوهمنا أن روايته رومانسية أو عاطفية بعنوانى جزئيها " اللوم فى الهوى " و " لا لوم على هوى " كما يخدعنا مرة أخرى بإسم الرواية الذى تظن معه أن لا علاقة له بأحداث الرواية خاصة و أن القارئ لن يفهم العنوان إلا مع الصفحات الأخيرة من الرواية فى تناغم كامل
الشخصية الرئيسية فى الرواية هى سند عبد الباقى و التى تدور حولها بقية الشخصيات كما تدور الأفلاك حول النجم او كالطريق المستقيم الذى يقع على جانبيه عديد من المحطات و الشخصيات
تدور الأحداث الرئيسية فى الرواية حول تلميذ الدكتور فتحى بكير أسطون من أساطين القانون و فطحل من فطاحله ... سند عبد الباقى ، تظن للوهلة الأولى وجود تشابه بين شخصية محجوب عبد الدايم فى
( القاهرة 30 )
و شخصية سند عبد الباقى خاصة مع ترادف الشق الأخير من الأسم و الذى تعمده د.عمرو إستمرارا ً لمسلسل خداع القارئ ، نعم كلتا الشخصيتين شخصية إنقيادية تابعة ذليلة و لكن محجوب كان فى نفسه شئ من الإعتراض على ما يفعل اما سند فمقتنع تماما ً بتبعيته لأستاذه بل مقتنع بسيادته عليه سيادة كاملة و فى هذا الجانب يتألق د.عمرو فى سرد و تفصيل و رسم ملامح شخصيته الرئيسية بقلم بارع محاولا ً تفسير - تفسيرا ً نفسيا ً - و تحليل مثل هذه النفسية ذاكرا ً بالتفصيل النشأة و التربية و البيئة ثم يخوض د.عمرو بعد ذلك عبر د.فتحى بكير ترزى قوانين الدولة و إبراهيم شلبى وزير العدل فينقد د.عمرو على إستحياء الحزب الحاكم و رجالاته و يحاول إيقاد قناديل نور داخل دهاليز السياسة و كموج البحر بعدما يرتفع د.عمرو بقلمه إلى عالم الصفوة و جاردن سيتى و ينزل إلى قاع القاع .... إلى عرب الحصن حيث منطقة عشوائية و فقر من أدنى مستويات الفقر فى العالم لنعيش مع سيد الكرسجى و أم بيسة و بناتهن نفيسة و سماح و شمس و محاسن و زكى التايه الطبال ثم يعود لعالم الصفوة و هكذا دواليك رابطا ً بين الإثنين بمهارة فائقة مشرحا ً المجتمع الذى أضحى عالمين علوى و آخر سفلى يخدمه و ينفذ طلباته بمنتهى الصغار منتظرا ً منه فقط الفتات
يستمر التشابه بين سند و محجوب - وهو التشابه الأخير - عندما يأمره أستاذه بالزواج من ابنته حياة بكير بعدما وقعت فى الرذيلة مع محيى بن معالى الوزير الذى لا يرد أن يصحح ما أقترفه من إثم فيأمر سند بالزواج من حياة فينفذ الأمر على الفور و بذا يتم د. عمرو زواجا ً كاثوليكيا ً بين السلطة و الشعب
و تصل ذروة التهكم من رجالات السلطة و الحزب الحاكم عندما يسرد د.عمرو قصصهم مع الراقصة إش إش او بتروشكا حسب أصولها الجورجية السوفيتية
تظهر العصافير اولا ً فى عصافير سند الأليفة الوديعة التى لا تفكر حتى فى التحليق داخل القفص لا أن تهرب منه حتى إذا فـُتح لها الباب و تنتظر الطعام او الفتات بمعنى أدق بمنتهى الذلة و الإستكانة اما حياة بكير بنت مايسة هانم رشدى خريجة المير دى ديو و زوجة ( البقف ) و الفنانة التشكيلية الشهيرة و سيدة المجتمع و الصديقة الصدوقة لعائلة معالى جناب رئيس الوزراء فعصافيرها تتوق إلى الحرية و الإنطلاق
يستمر تصاعد الصراع الدرامى مع علاقة سند بمحاسن الشغالة و التى تعوض مركب النقص لديه و تشنف آذانه بقولها ( يا سيدى ) و ريبة علاقة حياة بعشيقها القديم و نصل لقمة و ذروة الصراع الدرامى مع وفاة محاسن إثر عملية الإجهاض التى أجراها لها الطبيب العلمانى الملحد خالد هاشم ( أبوه المهندس هاشم عضو الأمانة العامة بالحزب الحاكم ) وفقد سند أى أمل لإحتلال منصب إبراهيم شلبى فيستمر صراعه النفسى لوقت قليل ثم ينطلق إلى معرض حياة بكير الفنى - حيث العصافير عنوانه - حيث الوزراء و رئيسهم و نجوم المجتمع و الصفوة فيطلق النار على الجميع بلا اى تمييز او إستثناءات فتتناثر الدماء و يفزع الجميع و تقع عصافير حياة على الأرض ثم ينتحر سند مطلقا ً النار على رأسه و مفجرا ً إياها
حقا ً قد إستطاع د.عمرو رسم لوحة بديعة للواقع الأليم الذى نعيشه حيث صار إذلال و إحتقار المواطن أمرا ً عاديا ً و مرارة العيش هى الطابع العام و السائد و الفساد و الظلم هما العنصرين السائدين و ينقسم المجتمع إلى عالمين إحداهما علوى للأغنياء و الصفوة و الساسة و رجالات الحكم و سدنة الحزب الحاكم و آخر سفلى للفقراء و المطحونين
الرواية صدرت عن الدار المصرية اللبنانية 2005
محمد ياسر بكر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق